فصل: (فرع: خلط حنطة بحنطة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: يطالب الغاصب بإزالة التزاويق]

وإن غصب من رجل داراً، فزوقها الغاصب بزاووق من عنده، أو جصصها بجص من عنده، فإن طالب مالك الدار الغاصب بقلع ذلك.. لزم الغاصب قلعه؛ لأن الغاصب شغل ملك المغصوب بملكه، فلزمه إزالته، فإذا قلعه.. نظرت:
فإن كانت قيمة الدار قبل التزويق كقيمتها بعد قلع التزاويق.. لم يلزم الغاصب شيء؛ لأنها لم تنقص بالقلع..
وإن كانت قيمة الدار نقصت بالحك، فصارت قيمتها بعد الحك أقل من قيمتها قبل التزويق.. لزم الغاصب ما بين القيمتين؛ لأنه نقص بفعله.
وإن طلب الغاصب قلع تزاويقه.. فقد قال البغداديون من أصحابنا: له قلعه، سواء كان لتزاويقه قيمة بعد القلع أو لم يكن؛ لأنه عين ماله، فكان له أخذه.
وقال المسعودي [في (الإبانة) ق\313] إن كان له عين.. فله قلعه، وإن لم يكن له عين.. فليس له قلعة، فإذا قلعه.. نظرت: فإن نقصت قيمة الدار بعد القلع عن قيمتها قبل التزاويق.. لزم الغاصب ما بينهما؛ لأنه نقص بفعله.
وإن وهب الغاصب الزاووق والجص لمالك الدار.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر على قبوله؛ لأن ذلك غير متميز عن ماله، فهو كقصارة الثوب.
والثاني: لا يجبر؛ لأنها أعيان ماله، فلا يجبر على قبولها، كالقماش في الدار.

.[فرع: يضمن الغاصب والمستعير قيمة المغصوب عند الكسر]:

وإن غصب من رجل جوهرة زجاج تساوي درهماً، فاتخذ منها قدحاً يساوي عشرة دراهم، فانكسر القدح، فرده إلى مالكه مكسوراً، وقيمته درهم.. لزمه مع رده تسعة دراهم، وإن أعاره قدحاً يساوي عشرة، ثم انكسر مرة ثانية، فرجعت قيمته إلى درهم، ثم صنعه قدحاً يساوي عشرة.. فقال صاحب (التلخيص): يرد القدح، ويرد معه ثمانية عشر درهماً.
قال الطبري: إن كانت الصنعة الثانية غير الصنعة الأولى.. فلا يختلف أصحابنا في أنه يرده وثمانية عشر درهماً؛ لأن الضمان استقر عليه بالكسر الأول، فإذا أعاره.. فهو مال آخر للمغصوب منه في يده، فلا ينجبر به ذلك النقص، وإن أعاد مثل ذلك القدح في القدر والصنعة، ورده صحيحاً.. فهل يغرم معه شيئاً؟ فيه وجهان، كما قلنا في السمن في الجارية.

.[مسألة: اختلاط زيت بمثله أو بأجود منه]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن كان زيتاً، فخلطه بمثله، أو خير منه، فإن شاء.. أعطاه من هذا مكيلته، وإن شاء.. أعطاه مثل زيته).
وجملة ذلك: أنه إذا غصب منه زيتاً، أو غيره من ذوات الأمثال، فخلطه بجنسه من ماله.. نظرت:
فإن خلطه بأجود منه، بأن غصب منه صاعاً من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع له من زيت يساوي أربعة دراهم، فإن بذل الغاصب للمغصوب منه صاعاً منه.. أجبر المغصوب منه على قبوله؛ لأنه دفع إليه بعض ما غصبه منه وشيئاً من جنسه، وهو خير مما غصب منه، فأجبر على قبوله، وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب.. فقد نص الشافعي هاهنا: (أن الخيار إلى الغاصب)، ونص في (التفليس): (إذا اشترى منه صاعاً من زيت، وخلطه بأجود منه من جنسه.. على قولين:
أحدهما: أنهما يكونان شريكين، وهذا خلاف نصه في (الغصب).
والثاني: أنه يضرب مع الغرماء بالثمن. فجعله على هذا كالمستهلك، كما قال في (الغصب).
واختلف أصحابنا فيها:
فمنهم من نقل جواب القولين إلى الغصب، وقال: في الغصب أيضاً قولان: أحدهما: أنه يصير كالمستهلك؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى ماله.
فعلى هذا: يعطيه الغاصب مثل زيته من غير هذا المختلط.
والثاني: يصيران شريكين في هذا المختلط؛ لأن عين ماله اختلط بجنسه، فصارا شريكين، كما لو اشتريا صاعين بينهما.
فعلى هذا: يباع الزيتان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، فيكون للغاصب ثلثا الثمن، وللمغصوب منه الثلث، فإن طلب المغصوب منه أن يأخذ من هذا الزيت المختلط ثلثي صاع، وهو ما قيمته منه قيمة صاعه.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنه يأخذ بعض صاع عن صاع، وذلك رباً.
والثاني: يجوز؛ لأنه يأخذ بعض حقه، ويترك البعض باختياره، وليس ذلك برباً؛ لأن الربا في المعاوضات، وليس ذلك بمعاوضة.
ومنهم من قال: يصير في الغصب كالمستهلك، قولاً واحداً، وفرقوا بينه وبين التفليس؛ لأن في التفليس لا يمكن الغريم الرجوع إلى كمال حقه إذا ضارب مع الغرماء، فجعل شريكاً، وهاهنا يمكنه أن يرجع في بدله، وهو كمال حقه.
وإن خلطه بمثله، بأن غصب منه صاعاً من زيت يساوي درهمين، فخلطه بصاع له من زيت يساوي درهمين، فإن بذل الغاصب صاعاً منه.. أجبر المغصوب منه على قبوله؛ لأن بعضه عين ماله، وبعضه مال الغاصب، وهو مثله، فأجبر على قبوله، وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب من ذلك، بل أراد أن يعطيه صاعاً من غيره.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو العباس، وأبو إسحاق: يجبر الغاصب على أن يدفع إليه صاعاً منه؛ لأن فيه بعض عين ماله، فلا يلزمه الانتقال إلى بدله، كما لو غصب منه صاعاً، وتلف بعضه.
ومنهم من قال: لا يجبر الغاصب على دفع صاع منه، وهو المنصوص هاهنا في (الأم) [3/226]؛ لأن عين مال المغصوب منه غير متميز من مال الغاصب، فصار كالمستهلك.
وإن خلطه بأردأ منه، بأن غصب منه صاعاً يساوي أربعة دراهم، فخلطه بصاع يساوي درهمين، فإن تراضيا على أن يأخذ المغصوب منه صاعاً منه.. جاز؛ لأنه يأخذ منه صاعاً دون حقه برضاه.
فإن بذل الغاصب صاعاً منه، وطلب المغصوب منه مثل زيته.. يجبر على دفع صاع من مثل زيته من غيره.
وإن طلب المغصوب منه صاعاً منه، وامتنع الغاصب.. ففيه وجهان:
أحدهما قال عامة أصحابنا: يجبر الغاصب على ذلك؛ لأنه رضي بأخذ حقه ناقصاً.
والثاني: قال ابن الصباغ: لا يجبر الغاصب؛ لأن حقه قد تعلق بذمته حين صار زيته كالمستهلك.
وإن بذل الغاصب صاعاً منه، وطلب المغصوب منه صاعاً من مثله زيته من غيره..
فالمنصوص: (أن الغاصب يجبر على دفع صاع من مثل زيته الذي غصب منه من غير هذا؛ لأن زيته صار كالمستهلك).
ومن أصحابنا من قال: يباع الزيتان، ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمة زيتيهما، كما قال إذا خلطه بأجود منه. وليس بشيء.

.[فرع: خلط زيت بشيرج]

وإن غصب منه زيتاً، وخلطه بغير جنسه مما لا يمكن تمييزه منه، بأن خلطه بالبان أو بالشيرج.. فإن تراضيا على أن يأخذ المغصوب منه مثل مكيلة زيته منه.. جاز؛ لأن الحق لهما، وإن امتنع أحدهما.. لم يجبر؛ لأن الغاصب لا يجبر على دفع غير ما وجب عليه، والمغصوب منه لا يجبر على أخذ غير ما وجب له.
فعلى هذا: يجبر الغاصب على دفع زيت مثل الذي غصبه؛ لأن هذا صار كالمستهلك.
ومن أصحابنا من قال: يباعان هاهنا، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، كما قال في المسألتين قبلها.
وإن خلط الزيت بالماء، فإن أمكن تخليصه منه من غير أن يفسده في الحال ولا في الثاني.. كلف الغاصب تخليصه، وعليه مؤنة التخليص؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، وإن كان إذا خلصه ينقصه نقصاناً مستقراً.. لزمه تخليصه، ورده، ورد ما نقص من قيمته، وإن كان نقصانه غير مستقر.. فالمنصوص: (أن الغاصب يلزمه أن يدفع مثله من جنسه؛ لأن هذا صار كالمستهلك).
وقال الربيع: فيه قول آخر: (أنه يلزمه تخليصه، ويرده وأرش ما نقص في الحال وفيما بعد، كما لو غصب عبداً، فقطع يده).
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في المسألة قولان:
أحدهما: يلزم المغصوب منه أن يأخذه وأرش ما نقص؛ لأن عين ماله موجودة متميزة، فلا يملك الرجوع ببدلها.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن نقصانه غير مستقر، بل يتزايد، فصار كالمستهلك.
ومنهم من قال: هي على قول واحد، وأنه يأخذ مثله من غيره؛ لما ذكرناه، وما ذكره الربيع من تخريجه.

.[فرع: خلط الدقيق بالدقيق]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن خلط دقيقاً بدقيق.. فكالزيت).
واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: للدقيق مثل. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو ظاهر النص؛ لأن تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة بصغر الحب وكبره.
فعلى هذا: حكمه حكم الزيت إذا خلط بالزيت، على ما مضى.
وقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وأكثر أصحابنا: لا مثل له؛ لأنه يتفاوت تفاوتاً كبيراً، وقول الشافعي: (إنه كالزيت) أراد: في أنه يرجع إلى بدله، كما يرجع إلى بدل الزيت إذا تلف، لا أنه يرجع إلى مثله.
فعلى هذا: إذا أراد قسمته بينهما.. نظرت:
فإن اختلفت قيمتهما.. لم تجز قسمته؛ لأن قيمتهما مختلفة، فلو جوزناها.. كان فيه تفاضل وربا.
وإن استوت قيمتهما، فإن قلنا: إن القسمة فرز النصيبين.. جازت قسمته، كما يجوز قسمة الرطب على هذا القول. وإن قلنا: إن القسمة بيع.. لم يجز قسمته، كما لا يجوز بيع بعضه ببعض. وحكى الكرابيسي عنه: (أنه يجوز). ولا يعرف ذلك للشافعي في شيء من كتبه.
ومن أصحابنا من قال: يباع الدقيقان، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتيهما بكل حال، كما قال في المسائل قبلها.

.[فرع: خلط حنطة بحنطة]

وإن غصب منه حنطة، فخلطها بحنطة له.. ففي ذلك مسائل كالتي ذكرناها في الزيت. فإذا خلطها بحنطة أجود منها، أو مثلها، أو دونها.. فالحكم فيها كالحكم في الزيت، وإن خلطها بما يمكن تمييزها منه، مثل: أن يخلط حنطة بيضاء بحنطة سمراء، أو حمراء، أو شعير، أو ذرة.. فعلى الغاصب تمييزها وتخليصها وإن لحقه بذلك مؤنة ومشقة، كما لو غصب ساجاً، وبنى عليه.
قال ابن الصباغ: وإن لم يتميز جميعه.. وجب عليه تمييز ما أمكن، وكان الباقي بمنزلة اختلاط الزيت بما لا يتميز عنه.

.[مسألة: يلزم الغاصب تفريغ ملك غيره]

وإن غصب أرضاً، فغرس فيها، أو بنى، فدعا مالك الأرض إلى قلع الغراس أو البناء.. لزم الغاصب قلعه؛ لما روي: «أن رجلاً غصب أرضاً، فغرس فيها نخيلاً، فرفع ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقلع النخيل).
قال الراوي: (فلقد رأيتها والفؤوس تعمل في أصولها، وإنها لنخيل عم»، يعني: طوالاً، ولهذا يقال للمرأة الطويلة: عميمة.
وروى سعيد بن زيد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس لعرق ظالم حق»، بكسر العين، وسكون الراء.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وكل ما وضع في الأرض للتأبيد.. فإنه يسمى: عرقا. والعروق أربعة: عرقان ظاهران، وهما: الغراس والبناء، وعرقان باطنان، وهما: (البئر والنهر).
ولأنه شغل ملك غيره بغير إذنه، فلزمه تفريغها، كما لو جعل فيها قماشاً.
إذا ثبت هذا: وقلع الغراس، أو البناء.. فقال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ، وغيرهما: عليه تسوية الأرض، وأرش نقص إن دخل على الأرض بالقلع، وأجرة مثلها؛ لأن ذلك حصل بعدوانه.
وذكر في (المهذب): أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في (الغصب): (يلزمه ما تنقص الأرض)، وقال في (البيع): (إذا قلع الأحجار المستودعة في الأرض.. عليه تسوية الأرض).
فمن أصحابنا من قال: هي على قولين:
أحدهما: يلزمه أرش النقص؛ لأنها نقصت بفعله.
والثاني: يلزمه تسوية الأرض؛ لأن جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه بالقيمة.
ومنهم من قال: يلزمه في الغصب أرش ما نقصت، وفي البيع يلزمه التسوية؛ لأن الغاصب متعد، فغلظ عليه بالقيمة؛ لأنها أوفى، والبائع غير متعد، فلم يلزمه أكثر من التسوية.

.[فرع: للمالك طلب قلع الغراس إن كان له غرض آخر]

وإن غصب من رجل أرضاً، وغراساً، فغرسه في الأرض، فطالب مالك الأرض الغاصب بقلع الغراس عن الأرض، فإن كان له غرض في القلع، بأن كان لا يريد غرس تلك الأرض.. أخذ الغاصب بقلع الغراس؛ لأنه لا يجوز تفويت غرض المالك، وإن لم يكن لمالك الأرض غرض في القلع، بأن كان يريد غرس تلك الأرض.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يؤخذ الغاصب بقلع الغراس، لأن ذلك عبث وسفه.
والثاني: يؤخذ بذلك؛ لأن الإنسان محكم في ملكه.

.[فرع: يلزم الغاصب أجرة الأرض وقلع زرعها وبدل نقصها]

وإن غصب أرضاً، وزرع فيها.. لزمه قلع الزرع، وأجرة الأرض، وأرش ما نقص إن حصل بها.
وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ليس لصاحب الأرض قلع الزرع، بل هو بالخيار: بين أن يدفع البذر والنفقة، ويملك الزرع، وبين أن يقره في الأرض إلى أوان الحصاد، ويطالب بأجرة أرضه).
دليلنا: أنه شغل ملك غيره بغير إذنه، فلزمه قلعه، كالغراس.

.[مسألة: غصب أرضاً وحفر فيها بئراً]

وإن غصب من رجل أرضاً، وحفر فيها بئراً، أو نهراً، فإن طالبه المغصوب منه برد التراب إلى البئر وطمها.. لزم الغاصب ذلك؛ لأنه نقل التراب من ملكه، فكان له مطالبته بإعادته، وإن طلب الغاصب أن يعيد التراب، فامتنع المغصوب منه.. أجبر المغصوب منه على إعادته. وقال المزني [في (المختصر) 3/40-41] لا يجبر، كما لو غصب منه غزلاً، ونسجه ثوباً. وهذا غلط؛ لأن الغاصب إن كان قد نقل التراب إلى ملك نفسه.. فله غرض برده، وهو تفريغ ملك نفسه، فإن كان قد نقله إلى ملك غيره، أو إلى طريق المسلمين.. فله غرض في رده، وهو تفريغ ملك الغير، وإزالة الضرر عن طريق المسلمين، وإن كان قد نقله إلى ملك المغصوب منه.. فله غرض في ذلك، وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع في البئر، فإذا طم البئر.. نظرت:
فإن نقصت قيمة الأرض بعد الطم عن قيمتها قبل الحفر.. لزمه ما بين القيمتين؛ لأنها نقصت بفعله.
وإن لم تنقص قيمتها.. لم يلزمه أرش النقص.
فإن قال المغصوب منه للغاصب: قد أبرأتك من ضمان من يقع فيها.. فهل يبرأ من ضمان من يقع فيها؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يبرأ؛ لأن الضمان بالحفر حق للغير.. فلا يصح إبراء المغصوب منه، ولأن هذا أبرأه مما لا يجب، فلم يصح.
فعلى هذا: للغاصب طم البئر بكل حال.
والثاني: أنه يبرأ، وهو قول أبي حنيفة، قال الشيخ أبو حامد: وهو الأصح؛ لأن الضمان يلزمه بوجود التعدي، فزال عنه برضا المالك، كما لو حفر بإذنه.
قال ابن الصباغ: وهكذا: ينبغي إذا لم يتلفظ بالإبراء، وإنما منعه من طمها؛ لأنه يتضمن رضاه بذلك.
فعلى هذا: ليس له أن يطم التراب إن كان قد وضعه في ملك المغصوب منه، وإن كان قد وضعه في ملك نفسه، أو في ملك غيره.. رده.
وإن غصب أرضاً، ثم كشط ترابها.. جاز للمغصوب منه أن يطالبه برده، وإعادة الأرض كما كانت، فإذا رده، فإن نقصت قيمة الأرض بعد ذلك عن قيمتها قبل الكشط.. لزمه ما بين القيمتين، وإن أراد الغاصب رده، وامتنع المغصوب منه، فإن كان الغاصب قد نقل التراب إلى ملك نفسه، أو إلى ملك غيره، أو إلى طريق المسلمين، أو إلى ملك المغصوب منه، ونقصت قيمة الأرض بنقل التراب إلى ملك المغصوب منه، ويرجو بإعادته زوال النقص.. فللغاصب رده؛ لأن له غرضاً في رده، وهو تفريغ ما نقل إليه التراب، أو زوال النقص، وإن كان نقل التراب إلى ملك المغصوب منه، ولم تنقص قيمة الأرض.. لم يكن له ذلك؛ لأنه لا فائدة له في ذلك.
وإن خرق ثوباً، وطلب الغاصب أن يرفأه.. قال المسعودي [في (الإبانة) ق\ 314] لم يجبر المالك على تمكينه من ذلك؛ لأنه لا يعود إلى حالته الأولى.

.[مسألة: غصبه ثوباً وصبغا]

وإن غصب من رجل ثوباً وصبغاً، فصبغه به.. لزم الغاصب أن يرد الثوب مصبوغاً؛ لأنهما عين ماله، فإن لم تنقص قيمة الثوب والصبغ، بأن كانت قيمة الثوب قبل الصبغ عشرة، وقيمة الصبغ خمسة، فصارت قيمتهما بعد الصبغ خمسة عشر.. فلا شيء على الغاصب؛ لأنه لم يتلف شيئاً من مال المغصوب منه، وإن زادت قيمتهما، فصارت عشرين.. فلا شيء للغاصب؛ لأن الزيادة حصلت بأثر من الغاصب لا بعين ماله، وإن نقصت قيمتهما، فصارت عشرة.. لزم الغاصب مع ردهما خمسة؛ لأنهما نقصا بفعله، إلا أن يعلم أن ذلك النقصان لنقصان سعر الثياب، أو الصبغ، فلا يلزمه شيء؛ لأن نقصان السعر لا يضمنه الغاصب مع رد العين.

.[مسألة: غصب ثوباً ثم صبغه من ماله]

وإن غصب من رجل ثوباً، فصبغه بصبغ من عنده.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الغاصب يكون شريكاً لصاحب الثوب؛ لأن الصبغ عين مال الغاصب، فإذا خلطه بمال المغصوب منه.. صار شريكاً له، كما لو غصب منه طعاماً، فخلطه بطعام له.
إذا ثبت هذا: فلا يخلو حالهما من ثلاثة أحوال: إما أن لا تزيد قيمتهما ولا تنقص، وإما أن تزيد قيمتهما، وإما أن تنقص قيمتهما.
فالحالة الأولى: إن لم تزد قيمتهما ولم تنقص، بأن كانت قيمة الثوب قبل الصبغ عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وقيمتهما بعد الصبغ عشرين.. فإن الغاصب هاهنا يكون شريكاً له في النصف، فيكون فيه سبع مسائل:
إحداهن: أن يتفقا على بيعهما، فإذا بيعا.. قسم الثمن بينهما نصفين.
الثانية: إذا تراضيا على ترك الثوب بحاله، ويكونان شريكين.. جاز.
الثالثة: أن يطلب الغاصب قلع صبغه.. فله ذلك، ويجبر المغصوب منه على تمكينه من ذلك؛ لأن الصبغ عين مال الغاصب، فكان له أخذه كما لو غصب
أرضاً، وغرس فيها، فله قلعه، إلا أن الثوب إن نقصت قيمته بقلع الصبغ.. لزم الغاصب ما نقصت قيمته؛ لأنه نقص بسبب من جهته.
الرابعة: إذا طلب المغصوب منه أن يقلع الغاصب صبغه من ثوبه، فإن رضي الغاصب بذلك.. فلا كلام، وإن امتنع الغاصب.. فهل يجبر؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول ابن خيران، وأبي إسحاق ـ: أنه يجبر، كما لو غصب أرضاً، وغرس فيها.
والثاني ـ وهو قول أبي العباس، وعامة أصحابنا ـ: أنه لا يجبر الغاصب، لأن الصبغ يهلك بالاستخراج، بخلاف النخل، مع أن الثوب لا يعود كما كان قبل الصباغ، بخلاف الأرض، ولأن الغراس لم يستقر ضرره؛ لأن عروقه وأغصانه تزيد، بخلاف الصبغ.
الخامسة: إذا بذل المغصوب منه قيمة الصبغ، ليتملكه مع الثوب، فإن رضي الغاصب بذلك.. جاز، وإن امتنع الغاصب، بل أراد القلع.. لم يجبر الغاصب على قبول القيمة.
وقال أبو حنيفة: (صاحب الثوب بالخيار: بين أن يعطيه قيمة الصبغ، ويأخذه مع الثوب، ويجبر الغاصب على قبوله، وبين أن يسلم الثوب إلى الغاصب، ويطالبه بقيمته)، بناء على أصله: إذا جنى الغاصب على العين المغصوبة جناية أذهب بها منفعتها المقصودة، وقد مضى ذلك.
السادسة: إذا أراد الغاصب البيع، وامتنع صاحب الثوب.. فهل يجبر على البيع؟ فيه وجهان، حكاهما الشيخ أبو إسحاق:
أحدهما: يجبر؛ ليصل الغاصب إلى ثمن صبغه، كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب الثوب إلى ثمن ثوبه.
والثاني: لا يجبر؛ لأنه متعد، فلم يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن ثوبه.
السابعة: إذا وهب الغاصب الصبغ من مالك الثوب.. فهل يجبر على قبوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: يجبر؛ لأن الصبغ متصل بماله، فأجبر على قبوله، كالسمن في الجارية.
والثاني: لا يجبر؛ لأنه عين يمكن إفرادها، فلم يجبر على قبوله، كالأعيان المنفردة.
الحالة الثانية: أن تزيد القيمة، بأن صار الثوب يساوي بعد الصبغ ثلاثين:
قال ابن الصباغ: فإن كانت تلك الزيادة لزيادة سعر السوق في الثياب.. كانت الزيادة لصاحب الثوب، وإن كانت الزيادة بسعر السوق في الصبغ.. كانت للغاصب، وإن كانت بالعمل.. كانت بينهما؛ لأن مالهما زاد بعمل الغاصب، وكل زيادة حصلت في المغصوب بأثر من الغاصب.. فإنها تكون ملكاً للمغصوب منه.
وذكر الشيخ أبو حامد: أن الزيادة بينهما نصفين، من غير تفصيل.
فعلى هذا: يكون فيه المسائل السبعة التي ذكرناها، إلا أن هاهنا إن اختار الغاصب قلع صبغه.. فله قلعه بشرط أن يضمن لصاحب الثوب ما نقص عن قيمة الثوب في هذه الحالة، وهو خمسة عشر؛ لأن الثوب زاد في ملك صاحبه، فصار مالكاً له ولزيادته، فيلزم الغاصب ما نقص من قيمته في هذه الحالة.
الحالة الثالثة: أن تنقص القيمة، قال ابن الصباغ: فينظر:
فإن كان لنقصان سعر الثياب.. كان ذلك من قيمة الثوب، وإن كان لنقصان قيمة الصبغ، أو كان لأجل الصبغ.. كان على صاحب الصبغ أرش ما نقص من قيمة الثوب؛ لأنه تعدى بالصبغ؛ لأن الصبغ يتبدد في الثوب.
وإن كان الصبغ لم يتبدد في الثوب، وكان النقصان منه، فإن كان النقص ببعض قيمة الصبغ، بأن صار الثوب وهو مصبوغ يساوي خمسة عشر.. فإن الغاصب يصير شريكاً بالثلث، وفيه المسائل التي ذكرناها. وإن نقص جميع قيمة الصبغ حتى صار الثوب وهو مصبوغ يساوي عشرة.. فإن الشافعي قال: (يقال للغاصب هاهنا: عين مالك قد استهلك، فإن شئت تركته، ولا شيء عليك ولا لك، فلا شيء عليه؛ لأن قيمة الثوب لم تنقص، ولا شيء له؛ لأن عين ماله قد استهلك، وإن اخترت أن تقلعه على أن عليك ما نقص الثوب عن العشرة.. كان لك ذلك).
قال الشيخ أبو حامد: ويجيء إذا طالب المغصوب منه الغاصب بقلع الصبغ.. لزمه على أحد الوجهين، ولا يجيء هاهنا دفع قيمة الصبغ، ولا هبة الصبغ؛ لأنه لا قيمة له، ولا يستحق الغاصب شيئاً من الثوب؛ لأن صبغه قد تلف، فإن صارت قيمة الثوب ثمانية دراهم.. قال الشيخ أبو حامد: قيل للغاصب: قد استهلك عين مالك، ونقص قيمة الثوب بفعلك، فأنت بالخيار: بين أن تترك الثوب مصبوغاً، وعليك ما نقص من قيمته، وهو درهمان، أو تقلع الصبغ، وعليك ضمان ما ينقص من قيمة الثوب؛ لأن الصبغ عين ماله.